سورة الحج - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحج)


        


{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49)}
اعلم أنه تعالى لما حكى من عظم ما هم عليه من التكذيب أنهم يستهزئون باستعجال العذاب فقال: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب} وفي ذلك دلالة على أنه عليه السلام كان يخوفهم بالعذاب إن استمروا على كفرهم ولأن قولهم: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملئكة} [الحجر: 7] يدل على ذلك فقال تعالى: {وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ} لأن الوعد بالعذاب إذا كان في الآخرة دون الدنيا فاستعجاله يكون كالخلف ثم بين أن العاقل لا ينبغي أن يستعجل عذاب الآخرة فقال: {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ} يعني فيما ينالهم من العذاب وشدته {كَأَلْفِ سَنَةٍ} لو بقي وعذب في كثرة الآلام وشدتها فبين سبحانه أنهم لو عرفوا حال عذاب الآخرة وأنه بهذا الوصف لما استعجلوه، وهذا قول أبي مسلم وهو أولى الوجوه: الوجه الثاني: أن المراد طول أيام الآخرة في المحاسبة ويرجع معناه إلى قريب مما تقدم، وذلك أن الأيام القصيرة إذا مرت في الشدة كانت مستطيلة فكيف تكون الأيام المستطيلة إذا مرت في الشدة. ثم إن العذاب الذي يكون طول أيامها إلى هذا الحد لا ينبغي للعاقل أن يستعجله والوجه الثالث: أن اليوم الواحد وألف سنة بالنسبة إليه على السواء لأنه القادر الذي لا يعجزه شيء، فإذا لم يستبعدوا إمهال يوم فلا يستبعدوا أيضاً إمهال ألف سنة.
أما قوله: {وَكَأَيِّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظالمة} فالمراد وكم من قرية أخرت إهلاكهم مع استمرارهم على ظلمهم فاغتروا بذلك التأخير ثم أخذتهم بأن أنزلت العذاب بهم، ومع ذلك فعذابهم مدخر إذا صاروا إلي وهو تفسير قوله: {وَإِلَىَّ المصير} فإن قيل فلم قال فيما قبل {فَكَأَيِّن مّن قَرْيَةٍ أهلكناها وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [الحج: 45] وقال هاهنا: {وَكَأَيِّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا} الأولى بالفاء وهذه بالواو؟ قلنا: الأولى وقعت بدلاً عن قوله: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الحج: 44] وأما هذه فحكمها حكم ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو، أعني قوله: {وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ}.
أما قوله: {قُلْ ياأيها الناس إِنَّمَا أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} فالمعنى أنه تعالى أمر رسوله بأن يديم لهم التخويف والإنذار، وأن لا يصده ما يكون منهم من الاستعجال للعذاب على سبيل الهزؤ عن إدامة التخويف والإنذار، وأن يقول لهم إنما بعثت للإنذار فاستهزاؤكم بذلك لا يمنعني منه.


{فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)}
اعلم أنه تعالى لما بين للرسول صلى الله عليه وسلم أنه يجب أن يقول لهم أنا نذير مبين أردف ذلك بأن أمره بوعدهم ووعيدهم، لأن الرجل إنما يكون منذراً بذكر الوعد للمطيعين والوعيد للعاصين. فقال والذين آمنوا وعملوا الصالحات فجمع بين الوصفين وهذا دليل على أن العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان وبه يبطل قول المعتزلة ويدخل في الإيمان كل ما يجب من الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان، ويدخل في العمل الصالح أداء كل واجب وترك كل محظور، ثم بين سبحانه أن من جمع بينهما فالله تعالى يجمع له بين المغفرة والرزق الكريم.
أما المغفرة فإما أن تكون عبارة عن غفران الصغائر، أو عن غفران الكبائر بعد التوبة، أو عن غفرانها قبل التوبة، والأولان واجبان عند الخصم، وأداء الواجب لا يسمى غفراناً، فبقي الثالث وهو دلالته على العفو عن أصحاب الكبائر من أهل القبلة.
وأما الرزق الكريم فهو إشارة إلى الثواب، وكرمه يحتمل أن يكون للصفات السلبية، وهو أن الإنسان هناك يستغني عن المكاسب وتحمل المشاق والذل فيها وارتكاب المآثم والدناءة بسببها، وأن يكون للصفات الثبوتية، وهو أن يكون رزقاً كثيراً دائماً خالصاً عن شوائب الضرر، مقروناً بالتعظيم والتبجيل. والأولى جعل الكريم دالاً على كل هذه الصفات، فهذا شرح حال المؤمنين.
وأما حال الكفار فقال: {والذين سَعَوْاْ فِي ءاياتنا معاجزين} والمراد اجتهدوا في ردها والتكذيب بها حيث سموها سحراً وشعراً وأساطير الأولين، ويقال لمن بذل جهده في أمر: إنه سعى فيه توسعاً من حيث بلغ في بذل الجهد النهاية، كما إذا بلغ الماشي نهاية طاقته فيقال له سعى، وذكر الآيات وأراد التكذيب بها مجازاً.
قال صاحب الكشاف: يقال سعى في أمر فلان إذا أصلحه أو أفسده بسعيه، أما المعاجز فيقال عاجزته، أي طمعت في إعجازه، واختلفوا في المراد، هل معاجزين لله أو للرسول وللمؤمنين، والأقرب هو الثاني لأنهم إن أنكروا الله استحال منهم أن يطمعوا في إعجازه وإن أثبتوه فيبعد أن يعتقدوا أنهم يعجزونه ويغلبونه، ويصح منهم أن يظنوا ذلك في الرسول بالحيل والمكايد.
أما الذين قالوا المراد معاجزين لله، فقد ذكروا وجوهاً: أحدها: المراد بمعاجزين مغالبين مفوتين لربهم من عذابهم وحسابهم حيث جحدوا البعث.
وثانيها: أنهم يثبطون غيرهم عن التصديق بالله ويثبطونهم بسبب الترغيب والترهيب.
وثالثها: يعجزون الله بإدخال الشبه في قلوب الناس والجواب: عن الأول أن من جحد أصل الشيء لا يوصف بأنه مغالب لمن يفعل ذلك الشيء، ومن تأول الآية على ذلك فيجب أن يكون مراده أنهم ظنوا مغالبة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما كان يقوله من أمر الحشر والنشر والجواب: عن الثاني والثالث أن المغالبة في الحقيقة ترجع إلى الرسول والأمة، لا إلى الله تعالى.
أما قوله تعالى: {أولئك أصحاب الجحيم} فالمراد أنهم يدومون فيها وشبههم من حيث الدوام بالصاحب، فإن قيل إنه عليه السلام في هذه الآية بشر المؤمنين أولاً وأنذر الكافرين ثانياً، فكان القياس أن يقال: قل يا أيها الناس إنما أنا لكم بشير ونذير، قلنا الكلام مسوق إلى المشركين، ويا أيها الناس نداء لهم، وهم الذين قيل فيهم {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض} [الحج: 46] ووصفوا بالاستعجال وإنما ألقى ذكر المؤمنين وثوابهم في البين زيادة لغيظهم وإيذائهم.


{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)}
أما قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِي أُمْنِيَّتِهِ} ففيه مسائل:
المسألة الأولى: من الناس من قال: الرسول هو الذي حدث وأرسل، والنبي هو الذي لم يرسل ولكنه ألهم أو رأى في النوم، ومن الناس من قال: إن كل رسول نبي، وليس كل نبي يكون رسولاً، وهو قول الكلبي والفراء. وقالت المعتزلة كل رسول نبي، وكل نبي رسول، ولا فرق بينهما، واحتجوا على فساد القول الأول بوجوه:
أحدها: هذه الآية فإنها دالة على أن النبي قد يكون مرسلاً، وكذا قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مّن نَّبِيٍّ} [الأعراف: 94].
وثانيها: أن الله تعالى خاطب محمداً مرة بالنبي ومرة بالرسول، فدل على أنه لا منافاة بين الأمرين، وعلى القول الأول المنافاة حاصلة.
وثالثها: أنه تعالى نص على أنه خاتم النبيين.
ورابعها: أن اشتقاق لفظ النبي إما من النبأ وهو الخبر، أو من قولهم نبأ إذا ارتفع، والمعنيان لا يحصلان إلا بقبول الرسالة.
أما القول الثاني: فاعلم أن شيئاً من تلك الوجوه لا يبطله، بل هذه الآية دالة عليه لأنه عطف النبي على الرسول، وذلك يوجب المغايرة وهو من باب عطف العام على الخاص.
وقال في موضع آخر {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيّ فِي الأولين} [الزخرف: 6] وذلك يدل على أنه كان نبياً، فجعله الله مرسلاً وهو يدل على قولنا: وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم كم المرسلون؟ فقال ثلثمائة وثلاثة عشرة، فقيل وكم الأنبياء؟ فقال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً الجم الغفير إذا ثبت هذا فنقول: ذكروا في الفرق بين الرسول والنبي أموراً: أحدها: أن الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه، والنبي غير الرسول من لم ينزل عليه كتاب، وإنما أمر أن يدعو إلى كتاب من قبله والثاني: أن من كان صاحب المعجزة وصاحب الكتاب ونسخ شرع من قبله فهو الرسول، ومن لم يكن مستجمعاً لهذه الخصال فهو النبي غير الرسول، وهؤلاء يلزمهم أن لا يجعلوا إسحاق ويعقوب وأيوب ويونس وهرون وداود وسليمان رسلاً لأنهم ما جاءوا بكتاب ناسخ والثالث: أن من جاءه الملك ظاهراً وأمره بدعوة الخلق فهو الرسول، ومن لم يكن كذلك بل رأى في النوم كونه رسولاً، أو أخبره أحد من الرسال بأنه رسول الله، فهو النبي الذي لا يكون رسولاً وهذا هو الأولى.
المسألة الثانية: ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى إعراض قومه عنه وشق عليه ما رأى من مباعدتهم عما جاءهم به تمنى في نفسه أن يأتيهم من الله ما يقارب بينه وبين قومه وذلك لحرصه على إيمانهم فجلس ذات يوم في ناد من أندية قريش كثير أهله وأحب يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء ينفروا عنه وتمنى ذلك فأنزل الله تعالى سورة {والنجم إِذَا هوى} [النجم: 1] فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ قوله: {أَفَرَءيْتُمُ اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى} [النجم: 19، 20] ألقى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته فقرأ السورة كلها فسجد وسجد المسلمون لسجوده وسجد جميع من في المسجد من المشركين فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر إلا سجد سوى الوليد بن المغيرة وأبي أحيحة سعيد بن العاصي فإنهما أخذا حفنة من التراب من البطحاء ورفعاها إلى جبهتيهما وسجدا عليها لأنهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا وقالوا قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام فقال ماذا صنعت تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله وقلت ما لم أقل لك؟! فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً وخاف من الله خوفاً عظيماً حتى نزل قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان فِي أُمْنِيَّتِهِ} الآية. هذا رواية عامة المفسرين الظاهريين، أما أهل التحقيق فقد قالوا هذه الرواية باطلة موضوعة واحتجوا عليه بالقرآن والسنة والمعقول.
أما القرآن فوجوه:
أحدها: قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} [الحاقة: 44 46].
وثانيها: قوله: {قُلْ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15].
وثالثها: قوله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} [النجم: 3] فلو أنه قرأ عقيب هذه الآية تلك الغرانيق العلي لكان قد ظهر كذب الله تعالى في الحال وذلك لا يقوله مسلم.
ورابعها: قوله تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [الإسراء: 73] وكلمة كاد عند بعضهم معناه قرب أن يكون الأمر كذلك مع أنه لم يحصل.
وخامسها: قوله: {وَلَوْلاَ أَن ثبتناك لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً} [الإسراء: 74] وكلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره فدل على أن ذلك الركون القليل لم يحصل.
وسادسها: قوله: {كذلك نُثَبّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32].
وسابعها: قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6].
وأما السنة فهي ما روي عن محمد بن إسحاق بن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال هذا وضع من الزنادقة وصنف فيه كتاباً.
وقال الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ثم أخذ يتكلم في أن رواة هذه القصة مطعون فيهم، وأيضاً فقد روى البخاري في صحيحه أن النبي عليه السلام قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون والإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق.
وروي هذا الحديث من طرق كثيرة وليس فيها ألبتة حديث الغرانيق.
وأما المعقول فمن وجوه:
أحدها: أن من جوز على الرسول صلى الله عليه وسلم تعظيم الأوثان فقد كفر لأن من المعلوم بالضرورة أن أعظم سعيه كان في نفي الأوثان.
وثانيها: أنه عليه السلام ما كان يمكنه في أول الأمر أن يصلى ويقرأ القرآن عند الكعبة آمناً أذى المشركين له حتى كانوا ربما مدوا أيديهم إليه وإنما كان يصلي إذا لم يحضروها ليلاً أو في أوقات خلوة وذلك يبطل قولهم.
وثالثها: أن معاداتهم للرسول كانت أعظم من أن يقروا بهذا القدر من القراءة دون أن يقفوا على حقيقة الأمر فكيف أجمعوا على أنه عظم آلهتهم حتى خروا سجداً مع أنه لم يظهر عندهم موافقته لهم.
ورابعها: قوله: {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِى الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله ءاياته} وذلك لأن إحكام الآيات بإزالة ما يلقيه الشيطان عن الرسول أقوى من نسخه بهذه الآيات التي تبقى الشبهة معها، فإذا أراد الله إحكام الآيات لئلا يلتبس ما ليس بقرآن قرآناً، فبأن يمنع الشيطان من ذلك أصلاً أولى.
وخامسها: وهو أقوى الوجوه أنا لو جوزنا ذلك ارتفع الأمان عن شرعه وجوزنا في كل واحد من الأحكام والشرائع أن يكون كذلك ويبطل قوله تعالى: {يا أيها الرسول بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] فإنه لا فرق في العقل بين النقصان عن الوحي وبين الزيادة فيه فبهذه الوجوه عرفنا على سبيل الإجمال أن هذه القصة موضوعة أكثر ما في الباب أن جمعاً من المفسرين ذكروها لكنهم ما بلغوا حد التواتر، وخبر الواحد لا يعارض الدلائل النقلية والعقلية المتواترة، ولنشرع الآن في التفصيل فنقول التمني جاء في اللغة لأمرين: أحدهما: تمنى القلب والثاني: القراءة قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ} [البقرة: 78] أي إلا قراءة لأن الأمي لا يعلم القرآن من المصحف وإنما يعلمه قراءة، وقال حسان:
تمنى كتاب الله أول ليلة *** وآخرها لاقى حمام المقادر
قيل إنما سميت القراءة أمنية لأن القارئ إذا انتهى إلى آية رحمة تمنى حصولها وإذا انتهى إلى آية عذاب تمنى أن لا يبتلى بها، وقال: أبو مسلم التمني هو التقدير وتمنى هو تفعل من منيت والمنية وفاة الإنسان في الوقت الذي قدره الله تعالى، ومنى الله لك أي قدر لك.
وقال رواة اللغة الأمنية القراءة واحتجوا ببيت حسان، وذلك راجع إلى الأصل الذي ذكرناه فإن التالي مقدر للحروف ويذكرها شيئاً فشيئاً، فالحاصل من هذا البحث أن الأمنية، إما القراءة، وإما الخاطر، أما إذا فسرناها بالقراءة ففيه قولان: الأول: أنه تعالى أراد بذلك ما يجوز أن يسهو الرسول صلى الله عليه وسلم فيه ويشتبه على القارئ دون ما رووه من قوله تلك الغرانيق العلى الثاني: المراد منه وقوع هذه الكلمة في قراءته ثم اختلف القائلون بهذا على وجوه:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتكلم بقوله تلك الغرانيق العلى ولا الشيطان تكلم به ولا أحد تكلم به لكنه عليه السلام لما قرأ سورة النجم اشتبه الأمر على الكفار فحسبوا بعض ألفاظه ما رووه من قولهم تلك الغرانيق العلى وذلك على حسب ما جرت العادة به من توهم بعض الكلمات على غير ما يقال وهذا الوجه ذهب إليه جماعة وهو ضعيف لوجوه:
أحدها: أن التوهم في مثل ذلك إنما يصح فيما قد جرت العادة بسماعه فأما غير المسموع فلا يقع ذلك فيه.
وثانيها: أنه لو كان كذلك لوقع هذا التوهم لبعض السامعين دون البعض فإن العادة مانعة من اتفاق الجم العظيم في الساعة الواحدة على خيال واحد فاسد في المحسوسات.
وثالثها: لو كان كذلك لم يكن مضافاً إلى الشيطان الوجه الثاني: قالوا إن ذلك الكلام كلام شيطان الجن وذلك بأن تلفظ بكلام من تلقاء نفسه أوقعه في درج تلك التلاوة في بعض وقفاته ليظن أنه من جنس الكلام المسموع من الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا والذي يؤكده أنه لا خلاف في أن الجن والشياطين متكلمون فلا يمتنع أن يأتي الشيطان بصوت مثل صوت الرسول عليه السلام فيتكلم بهذه الكلمات في أثناء كلام الرسول عليه السلام وعند سكوته فإذا سمع الحاضرون تلك الكلمة بصوت مثل صوت الرسول وما رأوا شخصاً آخر ظن الحاضرون أنه كلام الرسول، ثم هذا لا يكون قادحاً في النبوة لما لم يكن فعلاً له، وهذا أيضاً ضعيف فإنك إذا جوزت أن يتكلم في أثناء الشيطان كلام الرسول صلى الله عليه وسلم بما يشتبه على كل السامعين كونه كلاماً للرسول بقي هذا الاحتمال في كل ما يتكلم به الرسول فيفضي إلى ارتفاع الوثوق عن كل الشرع فإن قيل هذا الاحتمال قائم في الكل ولكنه لو وقع لوجب في حكمة الله تعالى أن يشرح الحال فيه كما في هذه الواقعة إزالة للتلبيس، قلنا لا يجب على الله إزالة الاحتمالات كما في المتشابهات وإذا لم يجب على الله ذلك تمكن الاحتمال من الكل الوجه الثالث: أن يقال المتكلم بذلك بعض شياطين الإنس وهم الكفرة فإنه عليه السلام لما انتهى في قراءة هذه السورة إلى هذا الموضع وذكر أسماء آلهتهم وقد علموا من عادته أنه يعيبها فقال بعض من حضر تلك الغرانيق العلى فاشتبه الأمر على القوم لكثرة لغط القوم وكثرة صياحهم وطلبهم تغليطه وإخفاء قراءته، ولعل ذلك كان في صلاته لأنهم كانوا يقربون منه في حال صلاته ويسمعون قراءته ويلغون فيها، وقيل إنه عليه السلام كان إذا تلا القرآن على قريش توقف في فصول الآيات فألقى بعض الحاضرين ذلك الكلام في تلك الوقفات فتوهم القوم أنه من قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أضاف الله تعالى ذلك إلى الشيطان لأنه بوسوسته يحصل أولاً ولأنه سبحانه جعل ذلك المتكلم في نفسه شيطاناً وهذا أيضاً ضعيف لوجهين:
أحدهما: أنه لو كان كذلك لكان يجب على الرسول صلى الله عليه وسلم إزالة الشبهة وتصريح الحق وتبكيت ذلك القائل وإظهار أن هذه الكلمة منه صدرت وثانيهما: لو فعل ذلك لكان ذلك أولى بالنقل، فإن قيل إنما لم يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك لأنه كان قد أدى السورة بكمالها إلى الأمة من دون هذه الزيادة فلم يكن ذلك مؤدياً إلى التلبيس كما يؤدي سهوه في الصلاة بعد أن وصفها إلى اللبس، قلنا إن القرآن لم يكن مستقراً على حالة واحدة في زمان حياته لأنه كان تأتيه الآيات فيلحقها بالسور فلم يكن تأدية تلك السورة بدون هذه الزيادة سبباً لزوال اللبس، وأيضاً فلو كان كذلك لما استحق العتاب من الله تعالى على ما رواه القوم الوجه الرابع: هو أن المتكلم بهذا هو الرسول صلى الله عليه وسلم ثم هذا يحتمل ثلاثة أوجه فإنه إما أن يكون قال هذه الكلمة سهواً أو قسراً أو اختياراً أما الوجه الأول: وهو أنه عليه السلام قال هذه الكلمة سهواً فكما يروى عن قتادة ومقاتل أنهما قالا إنه عليه السلام كان يصلي عند المقام فنعس وجرى على لسانه هاتان الكلمتان فلما فرغ من السورة سجد وسجد كل من في المسجد وفرح المشركون بما سمعوه وأتاه جبريل عليه السلام فاستقرأه، فلما انتهى إلى الغرانيق قال لم آتك بهذا، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن نزلت هذه الآية وهذا ضعيف أيضاً لوجوه:
أحدها: أنه لو جاز هذا السهو لجاز في سائر المواضع وحينئذ تزول الثقة عن الشرع.
وثانيها: أن الساهي لا يجوز أن يقع منه مثل هذه الألفاظ المطابقة لوزن السورة وطريقتها ومعناها، فإنا نعلم بالضرورة أن واحداً لو أنشد قصيدة لما جاز أن يسهو حتى يتفق منه بيت شعر في وزنها ومعناها وطريقتها.
وثالثها: هب أنه تكلم بذلك سهواً، فكيف لم ينبه لذلك حين قرأها على جبريل عليه السلام وذلك ظاهر أما الوجه الثاني: وهو أنه عليه السلام تكلم بذلك قسراً وهو الذي قال قوم إن الشيطان أجبر النبي صلى الله عليه وسلم على أن يتكلم بهذا فهذا أيضاً فاسد لوجوه:
أحدها: أن الشيطان لو قدر على ذلك في حق النبي عليه السلام لكان اقتداره علينا أكثر فوجب أن يزيل الشيطان الناس عن الدين ولجاز في أكثر ما يتكلم به الواحد منا أن يكون ذلك بإجبار الشياطين.
وثانيها: أن الشيطان لو قدر على هذا الإجبار لارتفع الأمان عن الوحي لقيام هذا الاحتمال.
وثالثها: أنه باطل بدلالة قوله تعالى حاكياً عن الشيطان: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22] وقال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين ءَامَنُواْ وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سلطانه على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ} [النحل: 99، 100] وقال: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [الحجر: 40] ولا شك أنه عليه السلام كان سيد المخلصين أما الوجه الثالث: وهو أنه عليه السلام تكلم بذلك اختياراً فهاهنا وجهان:
أحدهما: أن نقول إن هذه الكلمة باطلة والثاني: أن نقول إنها ليست كلمة باطلة أما على الوجه الأول فذكروا فيه طريقين:
الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء إن شيطاناً يقال له الأبيض أتاه على صورة جبريل عليه السلام وألقى عليه هذه الكلمة فقرأها فلما سمع المشركون ذلك أعجبهم فجاء جبريل عليه السلام فاستعرضه فقرأها فلما بلغ إلى تلك الكلمة قال جبريل عليه السلام أنا ما جئتك بهذه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه أتاني آت على صورتك فألقاها على لساني الطريق الثاني: قال بعض الجهال إنه عليه السلام لشدة حرصه على إيمان القوم أدخل هذه الكلمة من عند نفسه ثم رجع عنها، وهذان القولان لا يرغب فيهما مسلم ألبتة لأن الأول يقتضي أنه عليه السلام ما كان يميز بين الملك المعصوم والشيطان الخبيث والثاني يقتضي أنه كان خائناً في الوحي وكل واحد منهما خروج عن الدين أما الوجه الثاني: وهو أن هذه الكلمة ليست باطلة فهاهنا أيضاً طرق الأول: أن يقال الغرانيق هم الملائكة وقد كان ذلك قرآناً منزلاً في وصف الملائكة.
فلما توهم المشركون أنه يريد آلهتهم نسخ الله تلاوته الثاني: أن يقال المراد منه الاستفهام على سبيل الإنكار، فكأنه قال: أشفاعتهن ترتجى؟ الثالث: أن يقال إنه ذكر الإثبات وأراد النفي كقوله تعالى: {يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] أي لا تضلوا كما قد يذكر النفي ويريد به الإثبات كقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} [الأنعام: 151] والمعنى أن تشركوا، وهذان الوجهان الأخيران يعترض عليهما بأنه لو جاز ذلك بناء على هذا التأويل فلم لا يجوز أن يظهروا كلمة الكفر في جملة القرآن أو في الصلاة بناء على هذا التأويل، ولكن الأصل في الدين أن لا يجوز عليهم شيء من ذلك لأن الله تعالى قد نصبهم حجة واصطفاهم للرسالة فلا يجوز عليهم ما يطعن في ذلك أو ينفر، ومثل ذلك في التنفير أعظم من الأمور التي حثه الله تعالى على تركها كنحو الفظاظة والكتابة وقول الشعر فهذه الوجوه المذكورة في قوله تلك الغرانيق العلا قد ظهر على القطع كذبها، فهذا كله إذا فسرنا التمني بالتلاوة.
وأما إذا فسرناها بالخاطر وتمنى القلب فالمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم متى تمنى بعض ما يتمناه من الأمور يوسوس الشيطان إليه بالباطل ويدعوه إلى ما لا ينبغي ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ترك الالتفات إلى وسوسته، ثم اختلفوا في كيفية تلك الوسوسة على وجوه:
أحدها: أنه يتمنى ما يتقرب به إلى المشركين من ذكر آلهتهم بالثناء قالوا إنه عليه السلام كان يحب أن يتألفهم وكان يردد ذلك في نفسه فعندما لحقه النعاس زاد تلك الزيادة من حيث كانت في نفسه وهذا أيضاً خروج عن الدين وبيانه ما تقدم.
وثانيها: ما قال مجاهد من أنه عليه السلام كان يتمنى إنزال الوحي عليه على سرعة دون تأخير فنسخ الله ذلك بأن عرفه بأن إنزال ذلك بحسب المصالح في الحوادث والنوازل وغيرها.
وثالثها: يحتمل أنه عليه السلام عند نزول الوحي كان يتفكر في تأويله إن كان مجملاً فيلقى الشيطان في جملته ما لم يرده، فبين تعالى أنه ينسخ ذلك بالإبطال ويحكم ما أراده الله تعالى بأدلته وآياته.
ورابعها: معنى الآية إذا تمنى إذا أراد فعلاً مقرباً إلى الله تعالى ألقى الشيطان في فكره ما يخالفه فيرجع إلى الله تعالى في ذلك وهو كقوله تعالى: {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] وكقوله: {وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله} [الأعراف: 200] ومن الناس من قال لا يجوز حمل الأمنية على تمني القلب لأنه لو كان كذلك لم يكن ما يخطر ببال رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة للكفار وذلك يبطله قوله تعالى: {لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِى الشيطان فِتْنَةً لّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والقاسية قُلُوبُهُمْ}، والجواب: لا يبعد أنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر به فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسببه فيصير ذلك فتنة للكفار فهذا آخر القول في هذه المسألة.
المسألة الثالثة: يرجع حاصل البحث إلى أن الغرض من هذه الآية بيان أن الرسل الذين أرسلهم الله تعالى وإن عصمهم عن الخطأ مع العلم فلم يعصمهم من جواز السهو ووسوسة الشيطان بل حالهم في جواز ذلك كحال سائر البشر فالواجب أن لا يتبعوا إلا فيما يفعلونه عن علم فذلك هو المحكم، وقال أبو مسلم معنى الآية أنه لم يرسل نبياً إلا إذا تمنى كأنه قيل: وما أرسلنا إلى البشر ملكاً وما أرسلنا إليهم نبياً إلا منهم، وما أرسلنا نبياً خلا عند تلاوته الوحي من وسوسة الشيطان وأن يلقي في خاطره وما يضاد الوحي ويشغله عن حفظه فيثبت الله النبي على الوحي وعلى حفظه ويعلمه صواب ذلك وبطلان ما يكون من الشيطان، قال وفيما تقدم من قوله: {قُلْ ياأيها الناس إِنَّمَا أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} تقوية لهذا التأويل فكأنه تعالى أمره أن يقول للكافرين أنا نذير لكم لكني من البشر لا من الملائكة، ولم يرسل الله تعالى مثلي ملكاً بل أرسل رجالاً فقد وسوس الشيطان إليهم، فإن قيل هذا إنما يصح لو كان السهو لا يجوز على الملائكة، قلنا إذا كانت الملائكة أعظم درجة من الأنبياء لم يلزم من استيلائهم بالوسوسة على الأنبياء استيلاؤهم بالوسوسة على الملائكة، واعلم أنه سبحانه لما شرح حال هذه الوسوسة أردف ذلك ببحثين:
البحث الأول: كيفية إزالتها وذلك هو قوله تعالى: {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان} فالمراد إزالته وإزالة تأثيره فهو النسخ اللغوي لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام.
أما قوله: {ثُمَّ يُحْكِمُ الله ءاياته} فإذا حمل التمني على القراءة فالمراد به آيات القرآن وإلا فيحمل على أحكام الأدلة التي لا يجوز فيها الغلط.
البحث الثاني: أنه تعالى بين أثر تلك الوسوسة، ثم إنه سبحانه شرح أثرها في حق الكفار أولاً ثم في حق المؤمنين ثانياً، أما في حق الكفار فهو قوله: {لّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً} والمراد به تشديد التبعيد لأن عندما يظهر من الرسول صلى الله عليه وسلم الاشتباه في القرآن سهواً يلزمهم البحث عن ذلك ليميزوا السهو من العمد وليعلموا أن العمد صواب والسهو قد لا يكون صواباً.
أما قوله: {لّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والقاسية قُلُوبُهُمْ} ففيه سؤالان:
السؤال الأول: لم قال: {فِتْنَةً لّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} ولم خصهم بذلك الجواب: لأنهم مع كفرهم يحتاجون إلى ذلك التدبر، وأما المؤمنون فقد تقدم علمهم بذلك فلا يحتاجون إلى التدبر.
السؤال الثاني: ما مرض القلب الجواب: أنه الشك والشبهة وهم المنافقون كما قال: {فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} وأما القاسية قلوبهم فهم المشركون المصرون على جهلهم ظاهراً وباطناً.
أما قوله تعالى: {وَإِنَّ الظالمين لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} يريد أن هؤلاء المنافقين والمشركين فأصله وإنهم، فوضع الظاهر موضع المضمر قضاء عليهم بالظلم والشقاق والمشاقة والمعاداة والمباعدة سواء، وأما في حق المؤمنين فهو قوله: {وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبّكَ} وفي الكناية ثلاثة أوجه: أحدها: أنها عائدة إلى نسخ ما ألقاه الشيطان، عن الكلبي.
وثانيها: أنه الحق أي القرآن عن مقاتل.
وثالثها: أن تمكن الشيطان من ذلك الإلقاء هو الحق، أما على قولنا فلأنه سبحانه وتعالى أي شيء فعل فقد تصرف في ملكه وملكه بضم الميم وكسرها فكان حقاً، وأما على قول المعتزلة فلأنه سبحانه حكيم فتكون كل أفعاله صواباً فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم أي تخضع وتسكن لعلمهم بأن المقضي كائن، وكل ميسر لما خلق له، {وإن الله لهاد الذين آمنوا} إلى أن يتأولوا ما يتشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة ويطلبوا ما أشكل منه من المجمل الذي تقتضيه الأصول المحكمة حتى لا تلحقهم حيرة ولا تعتريهم شبهة وقرئ (لهاد الذين آمنوا) بالتنوين، ولما بين سبحانه حال الكافرين أولاً ثم حال المؤمنين ثانياً عاد إلى شرح حال الكافرين مرة أخرى فقال: {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مّنْهُ} أي من القرآن أو من الرسول، وذلك يدل على أن الأعصار إلى قيام الساعة لا تخلو ممن هذا وصفه.
أما قوله تعالى: {حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً} أي فجأة من دون أن يشعروا ثم جعل الساعة غاية لكفرهم، وأنهم يؤمنون عند أشراط الساعة على وجه الإلجاء. واختلف في المراد باليوم العقيم وفيه قولان:
أحدهما: أنه يوم بدر وإنما وصف يوم الحرب بالعقيم لوجوه أربعة: أحدها: أن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كأنهن عقم لم يلدن.
وثانيها: أن المقاتلين يقال لهم أبناء الحرب فإذا قتلوا وصف يوم الحرب بالعقيم على سبيل المجاز.
وثالثها: هو الذي لا خير فيه يقال ريح عقيم إذا لم تنشئ مطراً ولم تلقح شجراً.
ورابعها: أنه لا مثل له في عظم أمره، وذلك لقتال الملائكة فيه القول الثاني: أنه يوم القيامة، وإنما وصف بالعقيم لوجوه:
أحدها: أنهم لا يرون فيه خيراً.
وثانيها: أنه لا ليل فيه فيستمر كاستمرار المرأة على تعطل الولادة.
وثالثها: أن كل ذات حمل تضع حملها في ذلك اليوم فكيف يحصل الحمل فيه، وهذا القول أولى لأنه لا يجوز أن يقول الله تعالى: {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ} ويكون المراد يوم بدر، لأن من المعلوم أنهم في مرية بعد يوم بدر، فإن قيل لما ذكر الساعة. فلو حملتم اليوم العقيم على يوم القيامة لزم التكرار؛ قلنا ليس كذلك لأن الساعة من مقدمات القيامة واليوم العقيم هو نفس ذلك اليوم، وعلى أن الأمر لو كان كما قاله لم يكن تكراراً لأن في الأول ذكر الساعة، وفي الثاني ذكر عذاب ذلك اليوم، ويحتمل أن يكون المراد بالساعة وقت موت كل أحد وبعذاب يوم عقيم القيامة.
أما قوله: {الملك يَوْمَئِذٍ للَّهِ} فمن أقوى ما يدل على أن اليوم العقيم هو ذلك اليوم وأراد بذلك أنه لا مالك في ذلك اليوم سواه فهو بخلاف أيام الدنيا التي ملك الله الأمور غيره، وبين أنه الحاكم بينهم لا حاكم سواه وذلك زجر عن معصيته ثم بين كيف يحكم بينهم، وأنه يصير المؤمنين إلى جنات النعيم، والكافرين في العذاب المهين، وقد تقدم وصف الجنة والنار فإن قيل التنوين في يومئذ عن أي جملة ينوب؟ قلنا تقديره: الملك يوم يؤمنون أو يوم تزول مريتهم لقوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مّنْهُ حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة}.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9